إن سفر أيوب هو أقدم أسفار الكتاب المقدس. و هو السفر الذي يقدم لنا الصراع الذي يدور في فكر الإنسان المؤمن وسط آلامه في هذا الزمان. و لطالما كان هذا السفر مصدر للتعزية لكثيرين من المؤمنين الذين يمرون في ظروف و إمتحانات صعبة في الحياة ، لكن ليس هذا موضوع دراستنا بل ما نريد أن نركز عليه في هذه الدراسة هو الفترة الزمنية التي كتب فيها هذا السفر. هناك جدل حول هذا الأمر، فالبعض يظن أن سفر أيوب قد كتب قبل حادثة الطوفان و البعض يعتبر أنه كتب في زمن قريب بعد الطوفان و البعض الآخر يعتبر أنه كتب في زمن الآباء قبل خروج بني إسرائيل من مصر. لكي ندرس هذا الموضوع على ضوء الكتاب المقدس سنلتجىء إلى بعض الشواهد الداخلية من السفر وبعض الشواهد من أسفار أخرى من الكتاب المقدس، بالإضافة الى بعض الدراسات الأخرى.
2- شخصية أيوب
يعلن لنا الكتاب المقدس أن أيوب كان في أرض (عوص) و كان رجلاً مستقيماً أمام الله. لم يذكر كاتب السفر أي صلة لهذا الرجل بشعب الرب و لا أية معلومة عن إسرائيل أو نسل المخلص الرب يسوع.كما يذكر لنا الكتاب أن أيوب كان أعظم بني المشرق (أيوب 1: 3). فهذا يدل أن أيوب كان شخص غني و يملك الكثير من المواشي و كان لديه الكثير من الخدم، كما كان لديه سبعة بنين و ثلاث بنات (أيوب 1 : 2)
يعلن الكتاب أن أيوب كان رجلاً مستقيماً أمام الله (أيوب 1: 8) لأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلُهُ فِي الأَرْضِ. رَجُلٌ كَامِلٌ وَمُسْتَقِيمٌ يَتَّقِي اللهَ وَيَحِيدُ عَنِ الشَّرِّ
و نعلم أيضا من خلال السفر أن لأيوب ثلاثة أصدقاء (أيوب 2: 11) : أَلِيفَازُ التَّيْمَانِيُّ وَبِلْدَدُ الشُّوحِيُّ وَصُوفَرُ النَّعْمَاتِيُّ
و هكذا نكون أخذنا بعض المعلومات السريعة عن شخصية أيوب .
3- تاريخ السفر :
إن دراسة سفر أيوب من الناحية التاريخية ليس بالأمر السهل بل هناك العديد من النظريات و الأقاويل. لذلك علينا أن نركز على الأدلة الداخلية و الخارجية لكي نحدد الفترة التي كتب بها السفر. فإذا اِعتمدنا على سفر التكوين و الأحداث التي حدثت به، فنعلم أن سقوط الإنسان حدث في تكوين إصحاح (3) و من بعدها حادثة الطوفان في تكوين الإصحاح (6) و من بعدها حادثة بلبلة الألسنة في تكوين الإصحاح (11) و من بعدها العهد الإبراهيمي و دعوة الله لإبراهيم في تكوين إصحاح (12) من بعدها ننتقل إلى ناموس موسى. من المؤكد إن أحداث سفر أيوب حصلت في احدى هذه الفترات التي ذكرناها أعلاه . فالأحداث حصلت قبل الناموس الموسوي لأسباب كثيرة و منها إنه كان لِبَنات أيوب الحق في الميراث بنفس المستوى مع إخوتهم (أيوب 42: 15) و هذا الأمر لم يكن ضمن ناموس موسى كما إننا نرى أن أيوب كان يقدم الذبائح لعائلته كل يوم و لا يتبع تعاليم الناموس .
كَانَ لَمَّا دَارَتْ أَيَّامُ الْوَلِيمَةِ أَنَّ أَيُّوبَ أَرْسَلَ فَقَدَّسَهُمْ وَبَكَّرَ فِي الْغَدِ وَأَصْعَدَ مُحْرَقَاتٍ عَلَى عَدَدِهِمْ كُلِّهِمْ لأَنَّ أَيُّوبَ قَالَ: رُبَّمَا أَخْطَأَ بَنِيَّ وَجَدَّفُوا عَلَى اللهِ فِي قُلُوبِهِمْ. هَكَذَا كَانَ أَيُّوبُ يَفْعَلُ كُلَّ الاْيَّامِ (أيوب 1 : 5)
كما إن أيوب لا يذكر أي أمر عن الناموس و لا أي أمر عن أحداث الخروج من مصر لذلك أحداث السفر كانت قبل موسى .
والآن إذا ما أردنا أن نركز على الفترة التي بين تكوين إصحاح 3 و تكوين إصحاح 6، وهي الفترة التي ما قبل الطوفان، أيضا نجد إنه من الصعب جدا أن تكون أحداث السفر حدثت في تلك الفترة لأن أيوب يذكر و يتحدث عن الأمطار و الطوفان .
يَمْنَعُ الْمِيَاهَ فَتَيْبَسُ. يُطْلِقُهَا فَتَقْلِبُ الأَرْضَ.(أيوب 12: 15 )
و نرى في هذه الآيات كيف يتكلم عن المياه و كيف تنقلب الأرض مع وجود المياه. و هذه الأمور لا يمكن أن تكون قبل الطوفان لأنها لم تكن بعد قد أمطرت على الأرض فكان الضباب يطلع من الأرض و يسقي كل وجه المياه . و نرى أيضا هذه الآية:
الَّذِينَ قُبِضَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ الْوَقْتِ؟ الْغَمْرُ انْصَبَّ عَلَى أَسَاسِهِمِ.(أيوب 22: 16 ) و كأن أيوب يتكلم عن الطوفان و يذكر الحادثة فلا بد أن هذه الفكرة تدعم إنه كان في زمن قريب من الطوفان و ما زال الناس يتكلمون عن الأمر. لذلك أحداث سفر أيوب حدثت بعد الطوفان. فدعونا ننظر بالتدقيق إلى المرحلة ما بين الطوفان و الناموس. لنركز على المرحلة التي بين الطوفان و برج بابل و بلبلة الألسنة. إذا ما نظرنا إلى هذه المرحلة التي كانت الأرض فيها لغة واحدة فنرى في تكوين إصحاح 10 و 11 إنه لا بد أن تكون حادثة البلبلة قد حدثت في أيام نمرود, لأنه هو من بنى بابل حسب (تكوين 10 :9-10) و هو أيضا كان في أرض شنعار (تكوين (10 : 10). و برج بابل حدثت أحداثه في أرض شنعار أيضاً لذلك من المرجح أن تكون الأحداث حصلت في أيام نمرود الذي هو حفيد حام بن نوح. و هكذا يكون من الصعب أن يكون قد تشكلت القبائل و الغزوات و الأمور التي ذكرت في سفر أيوب. فهذه الفترة بين الطوفان و برج بابل مستبعدة أن تكون الفترة الزمنية لأحداث سفر أيوب. لذلك، اِنحصرت الدراسة إلى فترتين من الزمن وهما: الفترة التي هي بين برج بابل, و دعوة الله لإبراهيم. و الفترة التي هي بين دعوة الله لإبراهيم ودعوته لموسى. ما أرجحه أنا حسب هذه الدراسة إن أحداث السفر قد حدثت في الفترة التي هي قبل إبراهيم بقليل لأسباب كثيرة سأذكر بعضها.
أولا- عمر أيوب :
“وَكَانَ بَنُوهُ يَذْهَبُونَ وَيَعْمَلُونَ وَلِيمَةً فِي بَيْتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي يَوْمِهِ وَيُرْسِلُونَ وَيَسْتَدْعُونَ أَخَوَاتِهِمِ الثَّلاَثَ لِيَأْكُلْنَ وَيَشْرَبْنَ مَعَهُمْ”. (أيوب 1: 4)
و هنا نرى كيف إن أولاد أيوب العشرة كانوا قد أصبحوا في عمر متقدم, ولدى كل واحد منهم منزل و كانوا يصنعون الولائم في هذا منزل كل واحد فكانوا تقريبا في العشرين و هذا ما يجعل من عمر أيوب على الأقل في 70 و ممكن أكثر.
و يذكر أيضا في (أيوب 32 : 6 ) إن أيوب كان شيخ و متقدم في العمر و بعد هذه الأحداث زاد الرب على عمره 140 سنة.
وَعَاشَ أَيُّوبُ بَعْدَ هَذَا مِئَةً وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَرَأَى بَنِيهِ وَبَنِي بَنِيهِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَجْيَالٍ. (أيوب 42 : 16 )
و نرى إن الرب أكرم أيوب و زاد على عمره. مما يجعل عمر أيوب أكثر من 200 سنة و هذا ما يقربه من مرحلة ما قبل الأباء فناحور جد إبراهيم عاش 148 سنة و تارح والد إبراهيم عاش 205 سنوات و إبراهيم عاش 175 سنة و إسحاق 180سنة و يعقوب 147 سنة و إسماعيل 137 سنة و يوسف 120 سنة. هذا يجعل عمر أيوب أكثر من الآباء مما يدعم فكرة الكتابة قبل مرحلة الأباء .
ثانيا- إستخدام عبارة التنين و الجلد :
نرى في سفر أيوب ذكر هذه العبارتين مما يقربنا إلى فكرة إن الأحداث حصلت ليس بفترة بعيدة كثيراً عن الخلق ووجود التنانين (أي الديناصور لأن كلمة ديناصور لم تكن مستعملة قبل سنة 1841 بعد الميلاد). و هذا الأمر يجعل منا نفكر بأن الأحداث حصلت في فترة قريبة من الطوفان لأن مثل هذه الحيوانات ما زالت على قيد الحياة.
لِيَلْعَنْهُ لاَعِنُو الْيَوْمِ الْمُسْتَعِدُّونَ لإِيقَاظِ التِّنِّينِ.(أيوب 3 : 8)
أَبَحْرٌ أَنَا أَمْ تِنِّينٌ حَتَّى جَعَلْتَ عَلَيَّ حَارِساً؟(أيوب 7 : 12)
[هُوَذَا بهيموث الَّذِي صَنَعْتُهُ مَعَكَ. يَأْكُلُ الْعُشْبَ مِثْلَ الْبَقَرِ. هَا هِيَ قُوَّتُهُ فِي مَتْنَيْهِ وَشِدَّتُهُ فِي عَضَلِ بَطْنِهِ. يَخْفِضُ ذَنَبَهُ كَأَرْزَةٍ. عُرُوقُ فَخْذَيْهِ مَضْفُورَةٌ. عِظَامُهُ أَنَابِيبُ نُحَاسٍ وَأَضْلاَعُهُ حَدِيدٌ مُطَرَّقٌ. هُوَ أَوَّلُ أَعْمَالِ اللهِ. (أيوب 40 15 – 19 )
[أَتَصْطَادُ لوياثان بِشِصٍّ أَوْ تَضْغَطُ لِسَانَهُ بِحَبْلٍمَنْ يَفْتَحُ مِصْرَاعَيْ فَمِهِ؟ دَائِرَةُ أَسْنَانِهِ مُرْعِبَةٌ. فَخْرُهُ مَجَانُّ مَانِعَةٌ مُحَكَّمَةٌ مَضْغُوطَةٌ بِخَاتِمٍ. الْوَاحِدُ يَمَسُّ الآخَرَ فَالرِّيحُ لاَ تَدْخُلُ بَيْنَهَا. كُلٌّ مِنْهَا مُلْتَصِقٌ بِصَاحِبِهِ مُتَجَمِّدَةً لاَ تَنْفَصِلُ. (أيوب (41 : 1 و 14- 17 )
هَلْ صَفَّحْتَ مَعَهُ الْجَلَدَ الْمُمَكَّنَ كَالْمِرْآةِ الْمَسْبُوكَةِ؟ وَالآنَ لاَ يُرَى النُّورُ الْبَاهِرُ الَّذِي هُوَ فِي الْجَلَدِ ثُمَّ تَعْبُرُ الرِّيحُ فَتُنَقِّيهِ.( أيوب 37 : 18 و 21 )
ثالثا- إستخدام عبارة بني آدم و عدم ذكر إبراهيم :
لا نرى في سفر أيوب ذكر لإبراهيم و لا أي ذكر للآباء و أيضا لا يوجد ذكر للنزول إلى مصر بل يذكر آدم فقط مما يرجح إن الأحداث حصلت قبل الأباء
لِكَيْ يُحَاكِمَ الإِنْسَانَ عِنْدَ اللهِ كَابْنِ آدَمَ لَدَى صَاحِبِهِ. (أيوب 16 : 21 )
فَكَمْ بِالْحَرِيِّ الإِنْسَانُ الرِّمَّةُ وَابْنُ آدَمَ الدُّودُ (أيوب 25 : 6 )
رابعا- بعض الأسماء و الأماكن :
نرى في (تكوين 10 : 7 ) وَبَنُو كُوشَ: سَبَا وَحَوِيلَةُ وَسَبْتَةُ وَرَعْمَةُ وَسَبْتَكَا. وَبَنُو رَعْمَةَ: شَبَا وَدَدَانُ.
و نرى أيضا إن شبا كان حفيد إبراهيم (تك 25 : 3) و لكن من المرجح إن سبا في تكوين 10 هو الشخصية الأساسية و نرى في سفر أيوب ذكر لقوافل من سبا
نَظَرَتْ قَوَافِلُ تَيْمَاءَ. مَوَاكِبُ سَبَأٍ رَجَوْهَا (أيوب 6: 19 )
ذكر لعوص في (تكوين 10 : 23 ) وَبَنُو أَرَامَ: عُوصُ وَحُولُ وَجَاثَرُ وَمَاشُ.
و أيضا ذكر عوص الذي هو إبن أخي إبراهيم (تكوين 22: 21 ) و لكن من المرجح أيضا إن عوص في تكوين 10 هي الشخصية الأساسية و نعلم إن أيوب كان من أرض عوص (أيوب 1 :1 )
خامسا- ذكر لقصص مشابهة لأيوب في أرض مصر في فترة الآباء، و هذا ما يدعم إن القصة حصلت قبل هذه الفترة لكي تأخذ وقتها لتنتشر و تصل إلى مصر.
و مع وجود جميع هذه الأدلة يبقى الأمر صعب للجزم كلياً ما إذا كان السفر قد حدثت أحداثه في مرحلة الأباء أو قبل تلك المرحلة بقليل. و لكن ما هو مرجح حسب رأيي وحسب الدراسة التي قمت بها إن الأحداث حصلت في مرحلة ما قبل الآباء و قريبة للطوفان و لكن بعد حادثة بابل . في الختام نشكر الرب من أجل هذا السفر المميز الذي عزّى كثيرين من المؤمنين الذين يمرون في تجارب متنوعة، فهذا السفر فيه نرى عظمة الرب و قدرته و أبويته و رغبته في تقدمنا لكي نقترب و نفهم و نعلم و ندرك كم الرب صالح وسط التجارب .