البكاء ممارسة مخفيّة في حياة البالغين. ما هي المرّة الأخيرة التي بكيت فيها؟ البكاء يعبّر عن مشاعر الإنسان وعن عواطفه. كثيرًا ما يخبئ الإنسان مشاعره وعواطفه أمام الآخرين. ولكن في أوقات معيّنة لا يقدر الإنسان أن يحبس دموعه. وهذا الشيء الأكيد في حياة البالغين، أنّه عندما يبكون وبخاصة في العلن يكون لديهم سبب مهم لذلك. عندما يبكي الولد … لا أحد يسأل عن السبب. ولكن عندما تبكي أم الولد … فهناك سبب مهم. وإذا بكى أبو الولد … فهناك سبب جدا مهم. فماذا لو بكى يسوع؟
ما هو السبب لكي يبكي يسوع؟ لماذا بكى يسوع؟ ماذا تعلن دموع يسوع لنا اليوم؟ ذكر مرّتين عن يسوع أنّه بكى. المرة الأولى على قبر ألعازار والمرّة الثانية على أورشليم. وحادثة بكاء يسوع على أورشليم جاءت مباشرة بعد دخوله الظافر إلى أورشليم. الجو العام لم يكن جو بكاء ولكن جو فرح. ولكن يا لهول المفاجأة: بكى يسوع. لماذا بكى يسوع؟ ما هي الحقائق التي تعلنها هذه الدموع لنا؟
نقرأ هذه الحادثة في إنجيل لوقا 9: 41-44
“وَفِيمَا هُوَ يَقْتَرِبُ نَظَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَبَكَى عَلَيْهَا 42قَائِلاً: «إِنَّكِ لَوْ عَلِمْتِ أَنْتِ أَيْضًا، حَتَّى فِي يَوْمِكِ هذَا، مَا هُوَ لِسَلاَمِكِ! وَلكِنِ الآنَ قَدْ أُخْفِيَ عَنْ عَيْنَيْكِ. 43فَإِنَّهُ سَتَأْتِي أَيَّامٌ وَيُحِيطُ بِكِ أَعْدَاؤُكِ بِمِتْرَسَةٍ، وَيُحْدِقُونَ بِكِ وَيُحَاصِرُونَكِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، 44وَيَهْدِمُونَكِ وَبَنِيكِ فِيكِ، وَلاَ يَتْرُكُونَ فِيكِ حَجَرًا عَلَى حَجَرٍ، لأَنَّكِ لَمْ تَعْرِفِي زَمَانَ افْتِقَادِكِ».” (لو 9: 41-44)
بعد ثلاثة سنوات ونصف على خدمة الرّب يسوع، دخل إلى أورشليم ظافرًا بهتافات وبأناشيد، ولكن يا لهول المفاجأة، بكى يسوع. لماذا يبكي يسوع؟ ما دام الهيكل قائمًا والذبائح تقدّم والأعياد تحفظ في أورشليم لماذا بكى يسوع؟ بكى يسوع لأن شعب أورشليم لم يعرف زمن الافتقاد! بالمسيح الله يفتقد شعبه. ماذا يعني افتقاد الشعب؟
تكلم زكريا والد يوحنا بالنبوة عن هذا الافتقاد قائلا: “68«مُبَارَكٌ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ لأَنَّهُ افْتَقَدَ وَصَنَعَ فِدَاءً لِشَعْبِهِ، 69وَأَقَامَ لَنَا قَرْنَ خَلاَصٍ فِي بَيْتِ دَاوُدَ فَتَاهُ. 70كَمَا تَكَلَّمَ بِفَمِ أَنْبِيَائِهِ الْقِدِّيسِينَ الَّذِينَ هُمْ مُنْذُ الدَّهْرِ، 71خَلاَصٍ مِنْ أَعْدَائِنَا وَمِنْ أَيْدِي جَمِيعِ مُبْغِضِينَا. 72لِيَصْنَعَ رَحْمَةً مَعَ آبَائِنَا وَيَذْكُرَ عَهْدَهُ الْمُقَدَّسَ، 73الْقَسَمَ الَّذِي حَلَفَ لإِبْرَاهِيمَ أَبِينَا: 74أَنْ يُعْطِيَنَا إِنَّنَا بِلاَ خَوْفٍ، مُنْقَذِينَ مِنْ أَيْدِي أَعْدَائِنَا، نَعْبُدُهُ 75بِقَدَاسَةٍ وَبِرّ قُدَّامَهُ جَمِيعَ أَيَّامِ حَيَاتِنَا. 76وَأَنْتَ أَيُّهَا الصَّبِيُّ نَبِيَّ الْعَلِيِّ تُدْعَى، لأَنَّكَ تَتَقَدَّمُ أَمَامَ وَجْهِ الرَّبِّ لِتُعِدَّ طُرُقَهُ. 77لِتُعْطِيَ شَعْبَهُ مَعْرِفَةَ الْخَلاَصِ بِمَغْفِرَةِ خَطَايَاهُمْ، 78بِأَحْشَاءِ رَحْمَةِ إِلهِنَا الَّتِي بِهَا افْتَقَدَنَا الْمُشْرَقُ مِنَ الْعَلاَءِ. 79لِيُضِيءَ عَلَى الْجَالِسِينَ فِي الظُّلْمَةِ وَظِلاَلِ الْمَوْتِ، لِكَيْ يَهْدِيَ أَقْدَامَنَا فِي طَرِيقِ السَّلاَمِ».” (لو 1: 68-79)
تخيلوا معي عائلة فقيرة يفتقد فيها أفرادها إلى أساسيات الحياة. الأولاد ينامون بدون طعام كل ليلة، يشتهون الطعام من بعيد. الأم مريضة ولا تقدر أن تزور الطبيب. والأب معدوم وما بقي عنده قدرة ليقوم من الفراش من ضعف جسده وقلّة غذاءه. فقر وجوع موت وعري … في هذا الوضع اليائس يأتي رجل غني ليفتقد هذه العائلة. يأتي هذا الرجل بكل غناه ويحضر معه الأطباء والمسعفين وشاحنات الغذاء والدواء ويؤمن البيت والمسكن والملبس والمشرب. يأتي إلى العائلة الفقيرة لكي يفتقدها … ولكن العائلة لا تفتح الباب … يراهم من الشباك في جوعهم وفي عطشهم وفي تعاستهم وفي أمراضهم. يصرخ ويدعو ويترجى أهل البيت “أرجوكم افتحوا لي حتى أعينكم وأساعدكم … أريد أن أطعمكم وأريد أن أشبعكم وأريد أن ألبسكم وأريد أن أداويكم وأريد أن آخذكم لتسكنوا ببيت ملوكي … أرجوكم افتحوا لي الباب”. ولكن ليس من يفتح. ينادي أهل البيت مرارا وتكرارا مترجيًا إياهم: “كل شيء معدّ، الطعام جاهز والأدوية حاضرة وكل شيء كل أعد … أنا حاضر بنفسي حتى أساعدكم وأعينكم … أنا آتٍ أفتقدكم حتى أغيّر واقعكم وحياتكم وتعاستكم وأمراضكم وأزرع البسمة والسلام فيكم … أرجوكم افتحوا لي
هذا كان وضع أورشليم في تلك المرحلة. أورشليم مدينة الملك العظيم مدوسة من الأمم … بدون رجاء ولا أمل … عبادة بدون خلاص وحياة بدون كرامة. ولكن ربّ المجد جاء ليفتقد شعبه
جاء ليصنع الفداء –
جاء لكي يحقق كل وعود داود لهم –
جاء ليخلصهم من أعدائهم –
جاء ليذكر عهده المقدس معهم –
جاء لكي يعطيهم أن يعبدوه بدون خوف –
جاء لكي يعيشوا له بقداسة وبر كل أيام حياتهم –
جاء لكي يعطيهم الرحمة وغفران الخطايا –
جاء لكي يضيء عليهم بنوره ويهدي أقدامهم في طريق السلام. تجسد يسوع … وقرع الباب … ونادى … إلى خاصته جاء ولكن خاصته لم تقبله. بكى يسوع على أورشليم لأنها لم تعرف زمان افتقادها
زمن الافتقاد ليس فقط لأورشليم ولكن زمن الافتقاد هو عمل الله في حياتك. عندما يبادر الله لكي يعمل بحياتك
الله يراك بخطاياك –
الله يراك بحزنك –
الله يراك بألمك –
الله يراك بتعاستك وبؤسك –
الله يراك في طريقك للجحيم والهلاك الأبدي –
والله يبادر … ليعمل في حياتك. هو يريد أن يخلصك ويستخدمك ويقودك بحياة مليئة بالبركات والخدمة ويريد أن يزرع فرحه وسلامه في حياتك. الله يبادر، هذا افتقاد. أنظر إلى حياتك، الله يحبك، أرسل إليك أهل مؤمنين … أرسل إليك كنيسة تحبك … أرسل إليك أم تصلي لأجلك … أرسل إليك ك زوجة تحب الرّب … أرسل إليك مؤمن يبشرك ويخبرك عن الرّب. لنتفكر بحياتنا … كم من المرات الرّب نجانا من الموت؟ كم من المرات الرّب أعطانا فرص لكي نتوب ونرجع إليه بتعهدات جديدة؟
الله افتقدك. أمام هذا الافتقاد العظيم … ماذا تفعل؟ في هذا الوضع كانت أورشليم … لكنّها لم تعرف زمان افتقادها. فبكى يسوع. لقد ذرف يسوع الدموع
أولا. دموع على الامتياز المستهان به
:بكى يسوع على الامتياز العظيم الذي أضاعه شعب أورشليم
أعطى يسوع أورشليم وشعبها امتياز لا يفوقه امتياز، أن تكون مدينة الملك العظيم. اسمها يعني مدينة السلام. لكنّها لم تعرف ما هو لسلامها، لأنها رفضت المسيح الملك. ومع رفضها للمسيح الملك رفضت الامتياز الذي أعطي لها. وكذلك، الله أعطاك امتياز أن تسمع الإنجيل في عمر الشباب …أو أن تولد في عائلة مؤمنة …أو أن تعيش في بلد فيه حريّة العبادة. لا تظّن أنّ هذه الأمور مسلمات في العال، بل عليك أن تنظر إليها كتعاملات خاصة من الرّب في حياتك. عليك أن تشكر الرّب عليها، هذا جزء من افتقاد الرّب. قل للرّب: أشكرك لأنك افتقدتني، هذا امتياز وشرف لي ولحياتي، وأنا لن أفرط به. أنا سأستقبلك في حياتك أفضل استقبال، وسوف أكرمك بحياتي وأتمم مقاصدك
ثانيا. دموع على الفرص الضائعة
:بكى يسوع على الفرص المتكررة التي أضاعها شعب أورشليم
لقد أعطى الرّب فرص متكررة لأورشليم، قبل السبي وبعد السبي، وخلال خدمة يسوع في السنة الأولى والثانية والثالثة. فرص متكررة أعطيت لأورشليم، لكنها لم تعرف زمان افتقادها. فبكى يسوع. كم من الفرص أعطانا الرّب؟ قبل التجديد، فرص لا تحصى ولا تعدّ. بعد التجديد، فرص كثيرة للقداسة وللخدمة. الفرص المتكررة التي أضاعها شعب أورشليم هي فرصة الوجود في مشيئته. الله يعطيك الفرص كل يوم لكي تكون في مشيئته. هل ستقدّر هذا؟ هل تشكر الرّب على الفرص التي أعطاك إياها قبل التجديد وبعد التجديد؟ أمر محزن أن لا يستفيد الإنسان من فرص الرّب له
ثالثا. دموع على النتيجة الحتميّة للقرارات
:بكى يسوع على النتيجة الحتميّة التي حصدها شعب أورشليم
لقد حصد شعب أورشليم نتيجة قراراتهم الخاطئة. “وَفِيمَا هُوَ يَقْتَرِبُ نَظَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَبَكَى عَلَيْهَا 42قَائِلاً: «إِنَّكِ لَوْ عَلِمْتِ أَنْتِ أَيْضًا، حَتَّى فِي يَوْمِكِ هذَا، مَا هُوَ لِسَلاَمِكِ! وَلكِنِ الآنَ قَدْ أُخْفِيَ عَنْ عَيْنَيْكِ. 43فَإِنَّهُ سَتَأْتِي أَيَّامٌ وَيُحِيطُ بِكِ أَعْدَاؤُكِ بِمِتْرَسَةٍ، وَيُحْدِقُونَ بِكِ وَيُحَاصِرُونَكِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، 44وَيَهْدِمُونَكِ وَبَنِيكِ فِيكِ، وَلاَ يَتْرُكُونَ فِيكِ حَجَرًا عَلَى حَجَرٍ، لأَنَّكِ لَمْ تَعْرِفِي زَمَانَ افْتِقَادِكِ».” (لو 9: 41-44)
.لم تعرف أورشليم ما هو لسلامها. إعلَم أنّ سلامنا في مشيئة الرّب
وَتَبِعَهُ جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنَ الشَّعْبِ، وَالنِّسَاءِ اللَّوَاتِي كُنَّ يَلْطِمْنَ أَيْضًا وَيَنُحْنَ عَلَيْهِ. 28فَالْتَفَتَ إِلَيْهِنَّ يَسُوعُ وَقَالَ: «يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ، لاَ تَبْكِينَ عَلَيَّ بَلِ ابْكِينَ عَلَى أَنْفُسِكُنَّ وَعَلَى أَوْلاَدِكُنَّ، 29لأَنَّهُ هُوَذَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُونَ فِيهَا: طُوبَى لِلْعَوَاقِرِ وَالْبُطُونِ الَّتِي لَمْ تَلِدْ وَالثُّدِيِّ الَّتِي لَمْ تُرْضِعْ! 30حِينَئِذٍ يَبْتَدِئُونَ يَقُولُونَ لِلْجِبَالِ: اسْقُطِي عَلَيْنَا! وَلِلآكَامِ: غَطِّينَا! 31لأَنَّهُ إِنْ كَانُوا بِالْعُودِ الرَّطْبِ يَفْعَلُونَ هذَا، فَمَاذَا يَكُونُ بِالْيَابِسِ؟».” (لو 23: 26-32)
الدينونة الآتية، الهلاك للخطاة، الحساب أمام كرسي المسيح للمؤمنين…لقد بكى يسوع على النتيجة التي سيحصدها كل من أضاع الفرصة.علينا أن ندرك أننا مسؤولون عن كل قراراتنا. أنت مسؤول عن قراراتك
ويسوع يحزن عندما يوفّر لك كل الفرص لتتخذ قرارا صحيح وأنت تتخذ القرار خاطئ. لا تنظر إلى الوراء بل ابدأ اليوم باتخاذ القرارات صحيحة. نحن لا نستطيع أن نغيّر الماضي ولكننا نستطيع أن نغيّر حاضرنا ومستقبلنا من خلال اتخاذ قرارات مبنيّة على كلمة الرّب
رابعا. دموع على البركات المفقودة
:بكى يسوع على البركة الإلهيّة التي فقدها شعب أورشليم
لقد فقد شعب أورشليم البركات الإلهيّة. “وَفِيمَا هُوَ يَقْتَرِبُ نَظَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَبَكَى عَلَيْهَا 42قَائِلاً: «إِنَّكِ لَوْ عَلِمْتِ أَنْتِ أَيْضًا، … لأَنَّكِ لَمْ تَعْرِفِي زَمَانَ افْتِقَادِكِ».” (لو 9: 41-44)
المسيح لم يبكِ على نفسه ولكنه بكى على أورشليم. المسيح ذهب طوعًا إلى لصليب، بحسب المخطط الإلهي، وأنجز الخلاص بموته وقيامته، ولكنّه بكى عندما رأى ماذا سيحدث بأورشليم. لقد فقدوا البركة كشعب وكأمّة. مخطط الرّب مستمرّ ولكن الخاسر الوحيد هم شعب أورشليم. عندما نستهين بافتقاد الرّب لنا، ليس الله الذي يخسر بل نحن. نحن نخسر بركات الله على حياتنا. مخطط الله مستمرّ، والرابح الحقيقي هو كلّ مَن يسير في مخططه. عندما نخرج عن مخطط الرّب نفقد البركات المعدة من الرّب لحياتنا
في الختام، دموع يسوع الغالية تذرف على الفرص الضائعة لنفوس غير مبالية. بينما يتأمل العالم بدخول المسيح الظافر إلى أورشليم ليتنا نتذكر أولويات حياتنا. حياتنا ليست بأن ننظر لما فعله يسوع في الماضي ولكن إلى ما يريد أن يفعله يسوع في الحاضر. يسوع يفتقدنا
يسوع يستحق الأفضل من حياتنا. يسوع يستحق أفضل مكانة في قلوبنا. يسوع يستحق أفضل وقت من أيامنا. يسوع يستحق أن نعيش له بقداسة وأمانة وخدمة وتكريس
دموع في زمن الافتقاد … ليتها تكون دموع توبتنا وتكريسنا لمن يستحق كل المجد