الحياة الروحيّة فيها عمق وفيها غنى … فهناك الكثير لكي يكتشفه المؤمن في حياته الروحيّة. إحدى هذه النواحي هي الصوم. ولكن الصوم هو مثل الكثير من الحقائق الروحيّة عرضة للتشوّه والانحراف عن المفهوم الذي قصده الرّب. وعندما تتشوّه الحقائق الروحيّة ينتج ردّة فعل سلبيّة عند المؤمن لهذا الأمر. وهذا ما هو حصل بموضوع الصوم. هو موضوع مهمّ في حياة المؤمن، ولكن الضلال المرتبط بالصوم من حولنا اليوم، يشكّل ردّة فعل في حياتنا. وهذا الأمر كان حاصلا في أيام المسيح. فقد أوصى الرّب بالصوم في العهد القديم. ولكن مع تقدّم الأيام تشوّه مفهوم الصوم. كان اليهود ينادون بثلاثة جوانب أساسيّة في حياة التقوى: مساعدة الفقراء، الصلاة، والصوم. وكان اليهود يتفاخرون بهذه الأمور، حتى وصل بهم الأمرّ إلى أنّهم جرّدوها من معناها الروحي
.لذلك عالج الرّب يسوع المسيح هذه الأمور تدريجيّا في الموعظة على الجبل، وصحّح مفاهيمها
“اِحْتَرِزُوا مِنْ أَنْ تَصْنَعُوا صَدَقَتَكُمْ قُدَّامَ النَّاسِ لِكَيْ يَنْظُرُوكُمْ …”
“وَمَتَى صَلَّيْتَ فَلاَ تَكُنْ كَالْمُرَائِينَ …”
“وَمَتَى صُمْتُمْ فَلاَ تَكُونُوا عَابِسِينَ كَالْمُرَائِينَ …”
فدعونا نقرأ من كتبنا المقدّسة على الموعظة على الجبل 6: 5-18
وَمَتَى صَلَّيْتَ فَلاَ تَكُنْ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ يُصَلُّوا قَائِمِينَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي زَوَايَا الشَّوَارِعِ، لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! 6وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَادْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً. 7وَحِينَمَا تُصَلُّونَ لاَ تُكَرِّرُوا الْكَلاَمَ بَاطِلاً كَالأُمَمِ، فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ بِكَثْرَةِ كَلاَمِهِمْ يُسْتَجَابُ لَهُمْ. 8فَلاَ تَتَشَبَّهُوا بِهِمْ. لأَنَّ أَبَاكُمْ يَعْلَمُ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُوهُ … (الصلاة الربانيّة)
«وَمَتَى صُمْتُمْ فَلاَ تَكُونُوا عَابِسِينَ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ وُجُوهَهُمْ لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ صَائِمِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ. 17وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ فَادْهُنْ رَأْسَكَ وَاغْسِلْ وَجْهَكَ، 18لِكَيْ لاَ تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِمًا، بَلْ لأَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً
أولا. الصوم ليس طقس ديني
وَمَتَى صُمْتُمْ فَلاَ تَكُونُوا عَابِسِينَ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ وُجُوهَهُمْ لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ صَائِمِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ
لا يوجد في العهد الجديد من الكتاب المقدّس طقس اسمه الصوم أو شهر اسمه شهر الصوم أو أسبوع الصوم أو يوم الصوم. الكتاب المقدّس يقول “متى صمتم …” هذا يشير إلى أمر أساسي في حياة الإنسان ولكنّه أمر اختياري في حياة الإنسان – المسيح لم يقل متى نفعله، ولكنّه يقول عندما تقرّر أن تفعله عليك أن تفعله بشكل صحيح. الصوم مرتبط دائما بالصلاة في الكتاب المقدس. عندما تقرأ في الكتاب المقدّس عن الصوم دائما يرتبط بموضوع للصلاة. طلبت أستير من شعبها أن يصوموا ويصلو لأجلها بينما تدخل لمحضر الملك
وطلب عزرا ونحميا من شعبهما أن يصوموا من أجل تدخل الرّب وقيادته. وصام داود لأجل شفاء ابنه. وصام شعب نينوى تائبين عن خطاياهم. وصام كرنيليوس لكي يعرف مشيئة الرّب. وصلّت الكنيسة الأولى لكي تطلب قيادة الرّب في العمل الإرسالي. وصامت الكنائس عندما أرادت أن تعرف مشيئة الرّب باختيار الرعاة. الصوم دائما مرتبط بالصلاة. الصوم قد يكون ممارسة فرديّة في حياة المؤمن – كما حصل مع الرّب يسوع. الصوم قد يكون ممارسة كنسيّة – كما حصل مع الكنيسة في أنطاكية. عندما نتكلّم عن الصوم، نحن لا نتكلّم عن عمل ميكانيكي أو روتيني في حياتنا نفعله كواجب أو كطقس ديني. عندما نتكلّم عن الصوم نحن نتكلّم عن عمق في حياة الصلاة
ثانيا. الصوم ليس للتظاهر الخارجي أمام الناس
وَمَتَى صُمْتُمْ فَلاَ تَكُونُوا عَابِسِينَ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ وُجُوهَهُمْ لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ صَائِمِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ
نعيش في عصر يتباهى فيه الناس بمظاهر التقوى. أشخاص كتب عنهم بولس الرسول “لَهُمْ صُورَةُ التَّقْوَى …” (2تيم 3: 5)
إحدى مظاهر التقوى تظهر بالصوم … يظهر على الإنسان علامات التعب والحزن … ويتصرّف بطريقة أنّ خلقه ضيّق … ولا يستطيع أن يعمل. الرّب يسمي هذا الصوم، صوم المرائين. لأن الصوم هو ليس أمر للتظاهر أو للتباهي أمام الناس
وَمَتَى صُمْتُمْ فَلاَ تَكُونُوا عَابِسِينَ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ وُجُوهَهُمْ لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ صَائِمِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ
الصوم هو أمر بين الإنسان وبين الرّب. والإنسان الذي يحاول أن يكسب مهابة روحيّة أو احترام روحي من خلال تباهيه بالصوم يكون قد استوفى أجره بالموضوع. علينا أن ندرك أنّ الصوم هو أمر فردي بين الإنسان والرّب. وعندما يكون الصوم جماعي لموضوع معيّن له طابع فردي أيضا. هو ليس للتباهي ولكن للعمق الروحي مع الرّب. الصوم هو عندما تمتنع عن الطعام لكي تركّز على الصلاة وحياتك الروحيّة. أن تأتي أمام الرّب بتذلل عن أمورك الدنيويّة وتركّز على أمورك الروحيّة
ثالثا. الصوم يدخل في صلب العلاقة الروحيّة مع الرّب
وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ فَادْهُنْ رَأْسَكَ وَاغْسِلْ وَجْهَكَ، 18لِكَيْ لاَ تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِمًا، بَلْ لأَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً
هذا هو موضوع الموعظة على الجبل، الحياة الروحيّة من القلب. عليك أن تظهر صائما للرّب وليس للناس. الصوم مهمّ لعلاقتك الشخصيّة مع الرّب. يجب على المؤمن أن يدخل الصوم على علاقته مع الرّب. هذه درجة متقدمة، ما بعد الخلوة!!! إنّها الخلوة الروحيّة بعمق روحي أعظم. الصوم مرتبط بالشركة مع الرّب
الصوم مرتبط بأمرين: معرفة مشيئة الرّب – الكنيسة صامت لتعرف مشيئة الرّب – والتضرّع أمام الرّب – استير طلبت صوم – دانيال صام
الصوم هو أن تزيل أنظارك عن اهتمامات الجسد وتتفرغ لاهتمامات الروح. هذا هو هدف الصوم أن تركز على أمورك الروحيّة وتعتبرها أهم من أمورك الجسديّة
رابعا. الصوم له تأثير روحي عظيم على حياتك الروحيّة
“فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً”
الله يعطي الوعد أنّه سيجازي علانيّة. الله يستجيب الصلاة (الكنيسة في انطاكية تباركت بنشر الانجيل في العالم). الله يعطي قوّة على الأرواح الشريرة (هذا لا يخرج الا بالصوم والصلاة)
.في الختام، الصوم هو تعليم كتابي
.علينا أن نتقدّم بعلاقتنا مع الرّب لندخل الصوم إلى حياتنا الفرديّة والكنسيّة