لكلّ بناءٍ قويٍّ هناك أساسات قويّة، والمهندس الحكيم عندما يرى بناءً قويًّا يفتكر بالأساس الّذي يحمله. وكلّ شجرةٍ مثمرةٍ تكون جذورها عميقة، والمزارع الحكيم عندما يرى شجرةً مثمرةً، يفتكر بالعوامل الّتي أدّت إلى نجاح هذه الشّجرة. وكذلك وراء المؤمن المثمر يكمُن سرّ، والمؤمن الحكيم ينظر إلى السّرّ الكامن وراء النّجاح في الحياة الرّوحيّة. كما أنّ أساس البناء غالبًا ما يكون خفيًّا، وكما أنّ جذور الشّجرة والعوامل التي تؤدّي لثمرها خفيّة، هكذا أيضًا في الحياة الرّوحيّة. فإنّ السّرّ في نجاح حياة المؤمن يكمُن في حياته في الخفاء. لأنّ الله الّذي يرى في الخفاء يجازي علانية. هذا ما علّمه الرّبّ يسوع للمؤمنين في الموعظة على الجبل. ثلاث مرّات ذكر المسيح لتلاميذه في هذا المقطع من متى6 هذه العبارة: ” فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً.” فإنّ المجازاة العلنيّة من قبل الرّبّ، هي نتيجة الحياة الخفيّة التي يعيشها المؤمن. وعليه، فحياتنا الّتي نعيشها في الخفاء هي أساس النّجاح في الحياة الرّوحيّة. سندرس ما قصده المسيح، وكيف يمكن لحياة الخفاء أن تنعكس على حياتنا المنظورة، من كلماته كما دُوِّنت في متى 6: 3-17،“… 3وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُكَ، 4لِكَيْ تَكُونَ صَدَقَتُكَ فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ هُوَ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً
وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَادْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً. … 17وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ فَادْهُنْ رَأْسَكَ وَاغْسِلْ وَجْهَكَ، 18لِكَيْ لاَ تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِمًا، بَلْ لأَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً.” (متى 6: 3-17)
أولاً. تعليم المسيح عن الحياة في الخفاء
العطاء في الخفاء يُجازَى علانية: “… 3وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُكَ، 4لِكَيْ تَكُونَ صَدَقَتُكَ فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ هُوَ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً
الصّلاة في الخفاء تجازى علانية: “… 6وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَادْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً
الصوّم في الخفاء يجازى علانية: “… 17وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ فَادْهُنْ رَأْسَكَ وَاغْسِلْ وَجْهَكَ، 18لِكَيْ لاَ تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِمًا، بَلْ لأَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً.” (متى 6: 3-17)
.هدف تعليم المسيح من الموعظة على الجبل هو الانتقال من ديانة الطّقوس إلى العلاقة الشّخصيّة مع الرّبّ
فالرّبّ يريد من المؤمن أن يعيش حياته الرّوحيّة بأمانة أمامه في السّرّ وفي الخفاء. وهذا ينعكس بشكل طبيعي على حياة المؤمن العلنيّة والظّاهرة. فالله الذي يرى في الخفاء يجازي علانية
ثانيًا. الأمور التي يراها الله في الخفاء
المقارنة في الموعظة على الجبل هي بين الحياة الدّينيّة الظّاهريّة التي كان يعيشها الفريسيون والحياة التي يريدها الرّبّ من أولاده. إذ كان الفرّيسيّون يصومون ويعطون صدقةً لكي يراهم النّاس ، وكانوا يطيلون الصّلاة ويكرّرون الكلام لكي يبدوا روحيين. وأمّا أنت كمؤمن فحياتك الرّوحيّة هي علاقة مع الرّبّ، فلا تعِش لكي يراك النّاس، بل عِشها في الخفاء، بعطائك، بصلاتك، بصومك وبكلّ ما تفعله…لكي يراك اللّه
والجدير بالذّكر هنا، كلمة” يرى” المتكررة … حتّى عندما تكلّم الرّبّ عن الصّلاة، لم يقل الرّبّ: “وأبوك الذي يسمع في الخفاء …” بل قال: “أبوك الذي يرى في الخفاء”. فالله يرى … وعلى هذا الأساس يجب على المؤمن أن يعيش الحياة الرّوحيّة. فإنّ الله يرى دوافعك ، نواياك ، أفكارك ، جديّتك ، قلبك ، إخلاصك ، قداستك ، محبّتك له وللآخرين، مشاعرك ، ردّات فعلك ، أحاديثك ،كلماتك…وكلّ شيء
فنجاح المؤمن وبركة الرّب في حياته هي نتيجة الحياة المرضيّة أمام الرّبّ الّذي يرى كل الصّورة بأدقّ التّفاصيل في الخفاء والعلن
ثالثًا. الله يجازي علانية
هناك بركات كثيرة مخبّأة للمؤمن في المسيح. كما هو مكتوب: “مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بَارَكَنَا بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ” (اف 1: 3)
نعم، إنّ الله الذي يرى في الخفاء يجازي علانية. فعندما يرى الرّبّ مؤمنًا يعطي بسخاء من قلبه للمحتاجين في الخفاء، لا لكي يُظهر نفسه بل لكي يتمجّد الرّبّ ومن داعي المحبة، فالله يعد المؤمن ويقول له:” سأجازيك”. فالوعد الذي أعطاه الرّبّ للمعطي بدافع المحبّة هو: “أَعْطُوا تُعْطَوْا، كَيْلاً جَيِّدًا مُلَبَّدًا مَهْزُوزًا فَائِضًا يُعْطُونَ فِي أَحْضَانِكُمْ. لأَنَّهُ بِنَفْسِ الْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ”. (لو 6: 38)
وعندما يصلّي المؤمن في الخفاء يجازيه الرّبّ علانية أيضًا. فالمؤمن يصلّي لكلّ مواضيع حياته. في الاصحاح نفسه علّم الرّبّ الصّلاة الرّبّانيّة: “«فَصَلُّوا أَنْتُمْ هكَذَا: أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ. لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ. لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذلِكَ عَلَى الأَرْضِ. خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا الْيَوْمَ. وَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضًا لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا. وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ، لكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ. لأَنَّ لَكَ الْمُلْكَ، وَالْقُوَّةَ، وَالْمَجْدَ، إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ .” (متى 6: 9-13)
أضف أنّ الرّبّ يجازي علانية ببركات مادّيّة وروحيّة لا تُحصى ولا تُعدّ عندما يصوم ابن الرّبّ للصلاة ولمواضيع خاصة ويفعِّل ذلك في الخفاء أمام الرّبّ، وأيضًا عندما يفكّر ويتكلّم بطريقة إيجابيّة في الخفاء عن الآخرين، وعندما يعيش بقداسة وطهارة في حياته الخفيّة والمعلنة، بالإضافة إلى الخدمة المثمرة واللّطف والاحترام والمحبّة… فكل أمرٍ في الحياة الرّوحيّة يجد جذوره في الخفاء وفي محضر الرّبّ
ختامًا، منالملحوظ أنّ الأساس الّذي يحمل البناء هو غالبًا مخفيّ وغير منظور، وأنّ جذور الشّجرة والعوامل الّتي تؤدّي إلى نجاحها هي غالبًا مخفيّة وغير منظورة، فبالتّالي العوامل الّتي تؤدّي إلى نجاح حياة المؤمن الرّوحيّة هي مخفيّة
أخيرًا، الحياة الخفيّة التي تعيشها أمام الرّبّ ومع الرّبّ هي أساس الحياة الرّوحيّة المباركة والمثمرة، فالله يرى في الخفاء ويجازي علانية